الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ولما بين تعالى ما هم فيه من النعمة في دار السرور التي قال فيها القائل:
بين ما لأعدائهم من النقمة زيادة في سرورهم بما قاسوا في الدنيا من تكبرهم عليهم وفخارهم بقوله تعالى: {والذين كفروا} أي: ستروا ما دلت عليه عقولهم من شموس الآيات وأنوار الدلالات {لهم نار جهنم} أي: بما تجهموا أولياء الله الدعاة إليه {لا يقضي} أي: يحكم {عليهم} أي: بموت ثان {فيموتوا} أي: فيتسبب عن القضاء موتهم فيستريحوا كقوله تعالى: {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك} أي: بالموت فنستريح بل العذاب دائم.تنبيه:نصب فيموتوا بإضمار أن.ولما كانت الشدائد في الدنيا تنفرج وإن طال أمدها قال تعالى: {ولا يخفف عنهم} وأعرق في النفي بقوله تعالى: {من عذابها} أي: جهنم.تنبيه:في الآية الأولى أن العذاب في الدنيا إن دام قتل وإن لم يقتل يعتاده البدن ويصير مزاجًا فاسدًا لا يحس به المعذب فقال: عذاب نار الآخرة ليس كعذاب الدنيا إما أن يفنى وإما أن يألفه البدن بل هو في كل زمان شديد والمعذب فيه دائم.الثانية: وصف العذاب بأنه لا يفتر ولا ينقطع ولا بأقوى الأسباب وهو الموت حتى يتمنوه ولا يجابون كما قال تعالى: {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك} أي: بالموت.الثالثة، ذكر في المعذبين الأشقياء أنه لا ينقضي عذابهم ولم يقل تعالى: نزيدهم عذابًا وفي المثابين قال تعالى: {ويزيدهم من فضله}.وقوله تعالى: {كذلك} إما مرفوع المحل أي: الأمر كذلك وإما منصوبه أي: مثل ذلك الجزاء العظيم {نجزي كل كفور} أي: كافر بالله تعالى وبرسوله، وقرأ أبو عمرو بياء مضمومة وفتح الزاي ورفع كل، والباقون بنون مفتوحة وكسر الزاي ونصب كل.{وهم} أي: فعل ذلك بهم والحال أنهم {يصطرخون فيها} أي: يوجدون الصراخ فيها بغاية ما يقدرون عليه من الجهد في الصياح من البكاء والتوجع يقولون {ربنا} أي: أيها المحسن إلينا {أخرجنا} أي: من النار {نعمل صالحًا} ثم فسروه وبينوه بقولهم {غير الذي كنا نعمل} في الدنيا، فإن قيل: هلا اكتفى بقولهم {نعمل صالحًا} كما اكتفى به في قولهم {فأرجعنا نعمل صالحًا}.وما فائدة زيادة: {غير الذي كنا نعمل} على أنه يوهم أنهم يعملون صالحًا آخر غير الصالح الذي عملوه؟أجيب: بأن فائدته زيادة التحسر على ما عملوه من غير الصالح مع الاعتراف به وأما الوهم فزائل بظهور حالهم في الكفر وظهور المعاصي، ولأنهم كانوا يحسبون أنهم على سيرة صالحة كما قال تعالى: {وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا}.فقالوا: أخرجنا نعمل صالحًا غير الذي كنا نحسبه صالحًا فنعمله، فيقال لهم توبيخًا وتقريعًا: {أو لم نعمركم} أي: نطل أعماركم مع إعطائنا لكم العقول ولم نعاجلكم بالأخذ.{ما} أي: زمانًا {يتذكر فيه من تذكر} قال عطاء وقتادة والكلبي: ثماني عشرة سنة وقال الحسن: أربعون سنة وقال ابن عباس: ستون سنة، وروي ذلك عن علي، وروى البزار أنه صلى الله عليه وسلم قال: «العمر الذي أعذر الله تعالى فيه إلى ابن آدم ستون سنة» وروى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من عمرّه الله ستين سنة فقد أعذر إليه في العمر» وروى الترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين» وأقلهم من يجوز ذلك.وقوله تعالى: {وجاءكم النذير} عطف على {أو لم نعمركم} لأنه في معنى قد عمرناكم كقوله: {ألم نربك} ثم قال: {ولبثت} وقال تعالى: {ألم نشرح لك صدرك}، ثم قال تعالى: {ووضعنا عنك وزرك} إذ هما في معنى ربيناك وشرحنا، واختلف في النذير فقال الأكثرون: هو محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: القرآن، وقال عكرمة وسفيان بن عيينة ووكيع: هو الشيب، والمعنى: أو لم نعمركم حتى شبتم ويقال: الشيب نذير الموت، وفي الأثر ما من شعرة تبيض إلا قالت لأختها: استعدي فقد قرب الموت.ولما تسبب عن ذلك أن عذابهم لا ينفك قال تعالى: {فذوقوا} أي: ما أعددناه لكم من العذاب دائمًا أبدًا {فما للظالمين} أي: الذين وضعوا أعمالهم وأقوالهم في غير موضعها {من نصير} أي: في وقت الحاجة حتى يرفع العذاب عنهم قال البقاعي وهذا عام في كل ظالم.ولما كان تعالى عالمًا بكل ما نفى وما أثبت قال تعالى: {إن الله} أي: الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلمًا {عالم غيب السموات والأرض} لا تخفى عليه خافية فلا يخفى عليه تعالى أحوالهم وقوله تعالى: {إنه عليم بذات الصدور} تعليل له؛ لأنه إذا علم مضمرات الصدور قبل أن يعلمها أربابها حتى تكون غيبًا محضًا كان أعلم بغيره، ويعلم أنكم لو مدّت أعماركم لم ترجعوا عن الكفر أبدًا ولو رددتم لعدتم لما نهيتم عنه وإنه لا مطمع في صلاحكم.ولما كان من أنشأ شيئًا كان أعلم به قال تعالى: {هو} أي: وحده لا شركاؤكم ولا غيرهم {الذي جعلكم} أيها الناس {خلائف في الأرض} أي: يخلف بعضكم بعضًا، وقيل: جعلكم أمة واحدة خلفت من قبلها ورأت فيمن قبلها ما ينبغي أن يعتبر به، وقال القشيري: أهل كل عصر خليفة عمن تقدّمهم فمن قوم هم لسلفهم جمال ومن قوم هم أرذال وأسافل.تنبيه:خلائف جمع خليفة وهو الذي يقوم بعد الإنسان بما كان قائمًا به والخلفاء: جمع خليفة قاله الأصبهاني {فمن كفر فعليه كفره} أي: وبال كفره {ولا} أي: والحال أنه لا {يزيد الكافرين} أي: المغطين للحق {كفرهم} أي: الذي هم ملتبسون به ظانون أنه يسعدهم وهم راسخون فيه غير منتقلين عنه {عند ربهم} أي: المحسن إليهم {إلا مقتا} أي: غضبًا؛ لأن الكافر السابق كان ممقوتًا {ولا يزيد الكافرين} أي: العريقين في صفة التغطية للحق {كفرهم إلا خسارًا} أي: للآخرة؛ لأن العمر كرأس مال من اشترى به رضا الله تعالى ربح، ومن اشترى به سخط الله تعالى خسر.ولما بين أنه سبحانه هو الذي استخلفهم أكد بيان ذلك عندهم بأمره صلى الله عليه وسلم بما يضطرهم إلى الاعتراف بقوله تعالى: {قل} أي: لهم {أرأيتم} أي: أخبروني {شركاءكم} أضافهم إليهم؛ لأنهم وإن كانوا جعلوهم شركاءه لم ينالوا شيئًا من شركته؛ لأنهم ما نقصوه شيئًا من ملكه وإنما شاركوا العابدين في أموالهم بالسوائب وغيرها وفي أعمالهم فهم شركاؤهم بالحقيقة لا شركاؤه، ثم بين المراد من عدّهم لهم شركاء بقوله تعالى: {الذين تدعون} أي: تعبدون {من دون الله} أي: غيره وهم الأصنام الذين زعمتم أنهم شركاء الله تعالى: {أروني} أي: أخبروني {ماذا} أي: الذي أو أي شيء {خلقوا من الأرض} أي: لتصح لكم دعوى الشركة فيهم وإلا فادعاؤكم ذلك فيهم كذب محض وإنكم تدعون أنكم أبعد الناس منه في الأمور الهينة فكيف بمثل هذا {أم لهم شرك} أي: شركة مع الله تعالى وإن قلت {في السموات} أي: أروني ماذا خلقوا لكم من السموات فالآية من الاحتباك حذف أولًا الاستفهام عن الشركة في الأرض لدلالة مثله في السماء ثانيًا عليه، وحذف الأمر بالإراءة ثانيًا له لدلالة مثله أولًا عليه.{أم آتيناهم كتابًا} ينطق على أنا اتخذنا شركاء {فهم} الأحسن في هذا الضمير أن يعود على الشركاء لتناسق الضمائر، وقيل: يعود على المشركين قاله مقاتل فيكون التفاتًا من خطاب إلى غيبة {على بينة} أي: حجة {منه} بأن لهم معي شركة، ولما كان التقدير لا شيء لهم من ذلك قال تعالى منبهًا على ذميم أحوالهم وسفه آرائهم وخسة هممهم ونقصان عقولهم {بل إن} أي: ما {يعد الظالمون} أي: الواضعون الأشياء في غير موضعها {بعضهم بعضًا} أي: الاتباع للمتبوعين بأن شركاءهم تقربهم إلى الله تعالى زلفى، وأنها تشفع وتضر وتنفع {إلا غرورًا} أي: باطلًا.ولما بين تعالى حقارة الأصنام بين عظمته سبحانه بقوله تعالى: {إن الله} أي: الذي له جميع صفات الكمال {يمسك السموات} أي: على كبرها وعلوها {والأرض} أي: على سعتها وبعدها عن التماسك على ما تشاهدون، وقوله تعالى: {أن تزولا} أي: برجة عظيمة وزلزلة كبيرة يجوز أن يكون مفعولًا من أجله أي: كراهة أن تزولا، وقيل: لئلا تزولا، ويجوز أن يكون مفعولًا ثانيًا على إسقاط الخافض أي: يمنعهما من أن تزولا، ويجوز أن يكون بدل اشتمال أي: يمنع زوالهما؛ لأن ثباتهما على ما هما عليه على غير القياس لولا شامخ قدرته وباهر عزته وعظمته، فإن ادعيتم عنادًا أن شركاءكم لا يقدرون على الخلق لعلة من العلل فادعوهم لإزالة ما خلق الله تعالى.ولما كان في هذا دليل على أنهما حادثتان زائلتان أتبعه ما هو أبين منه بقوله تعالى معبرًا بأداة الإمكان {ولئن} لام قسم {زالتا} أي: بزلزلة خراب أو غير ذلك {إن} أي: ما {أمسكهما من أحد من بعده} جواب القسم الموطأ له بلام القسم وجواب الشرط محذوف يدل عليه جواب القسم، ولذلك كان فعل الشرط ماضيًا، وقول البيضاوي تبعًا للزمخشري: والجملة سدت مسد الجوابين فيه تجوز، فالمراد بسدهما مسدهما أنها تدل عليهما لا أنها قائمة مقامهما إذ يلزم أن تكون معمولة وغير معمولة؛ لأنها باعتبار جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وباعتبار جواب الشرط لها محل، ومن في {من أحد} مزيدة لتأكيد الاستغراق وفي {من بعده} لابتداء الغاية، والمعنى: أحد سواه أو من بعد الزوال {إنه كان} أي: أزلًا وأبدًا {حليمًا} إذ أمسكهما وكانتا جديرتين بأن تهدّا هدًّا كما قال تعالى: {تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدًا}.لأنه لا يستعجل إلا من يخاف الفوت فينتهز الفرصة {غفورًا} أي: محاء لذنوب من رجع إليه وأقبل بالاعتراف عليه فلا يعاقبه ولا يعاتبه.ولما بلغ كفار مكة أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا: لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم:{وأقسموا} أي: كفار مكة {بالله} أي: الذي لا يقسم بغيره {جهد أيمانهم} أي: غاية اجتهادهم فيها {لئن جاءهم نذير} أي: رسول {ليكونن أهدى من إحدى الأمم} أي: اليهود والنصارى وغيرهم أي: آية واحدة منها لما رأوا من تكذيب بعضها بعضًا {إذ قالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء}.{فلما جاءهم نذير} أي: على ما شرطوا وزيادة وهو محمد صلى الله عليه وسلم الذي كانوا يشهدون أنه خيرهم نفسًا وأشرفهم نسبًا وأكرمهم خلقًا {ما زادهم} أي: مجيئه شيئًا مما هم عليه من الأحوال {إلا نفورًا} أي: تباعدًا عن الهدى؛ لأنه كان سببًا في زيادتهم في الكفر كالإبل التي كانت نفرت من ربها فضلت عن الطريق فدعاها فازدادت بسبب دعائه نفرة فصارت بحيث يتعذر أو يتعسر ردها، فتبين أنه لا عهد لهم مع ادعائهم أنهم أوفى الناس ولا صدق عندهم مع جزمهم بأنهم أصدق الخلق، ثم علل نفورهم بقوله تعالى: {استكبارًا} أي: طلبًا لإيجاد الكبر لأنفسهم {في الأرض} أي: التي من شأنها السفول والتواضع والخمول فلم يكن نفورهم لأمر محمود ولا مباح، ويجوز أن يكون استكبارًا بدلًا من نفورًا وأن يكون حالًا أي: حال كونهم مستكبرين قاله الأخفش.وقوله تعالى: {ومكر السيء} فيه وجهان: أظهرهما: أنه عطف على استكبارًا، والثاني: أنه عطف على نفورًا وهذا من إضافة الموصوف إلى صفته في الأصل إذ الأصل والمكر السيء، والبصريون يئولونه على حذف موصوف أي: العمل السيء أي: الذي من شأنه أن يسوء صاحبه وغيره وهو إرادتهم لإهانة أمر النبي صلى الله عليه وسلم وإطفاء نور الله عز وجل، وقال الكلبي: هو اجتماعهم على الشرك وقتل النبي صلى الله عليه وسلم.وقرأ حمزة في الوصل بهمزة ساكنة أي: بنية الوقف إشارة إلى تدقيقهم المكر واتقانه وإخفائه جهدهم، والباقون بهمزة مكسورة، وإذا وقف حمزة أبدل الهمزة ياء وأدغم الياء الأولى في الياء الثانية، ووقف الباقون بهمزة ساكنة {ولا} أي: والحال أنه لا {يحيق} أي: يحيط إحاطة لازمة خسارة {المكر السيء} أي: الذي هو عريق في السوء {إلا بأهله} أي: وإن أذى غير أهله لكنه لا يحيط بذلك الغير، فإن قيل: كثيرًا ما نرى الماكر يمكر ويفيده المكر ويغلب الخصم بالمكر والآية تدل على عدم ذلك، أجيب: بأجوبة: أحدها: أن المكر في الآية هو المكر الذي مكروه مع النبي صلى الله عليه وسلم من العزم على القتل والإخراج ولم يحق إلا بهم حيث قتلوا يوم بدر وغيره.ثانيها: أنه عام وهو الأصح، ويدل له قول الزهري: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تمكروا ولا تعينوا ماكرًا فإن الله تعالى يقول: وقرأ هذه الآية، ولا تبغوا ولا تعينوا باغيًا يقول الله تعالى: {إنما بغيكم على أنفسكم} ولا تنكثوا ولا تعينوا ناكثًا قال الله تعالى: {فمن نكث فإنما ينكث على نفسه}».ثالثها: أن الأعمال بعواقبها ومن مكر بغيره ونفذ فيه المكر عاجلًا في الظاهر فهو في الحقيقة هو الفائز والماكر هو الهالك كمثل راحة الكافر ومشقة المسلم في الدنيا ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى: {فهل ينظرون} أي: ينتظرون {إلا سنت الأولين} أي: سنة الله تعالى فيهم من تعذيبهم بتكذيبهم رسلهم، والمعنى: فهل ينتظرون إلا أن ينزل بهم العذاب كما نزل بمن مضى من الكفار.ولما كان هذا النظر يحتاج إلى صفاء في اللب وذكاء في النفس عدل عن ضميرهم إلى خطاب أعلى الخلق بقوله تعالى: {فلن تجد} أي: في وقت من الأوقات {لسنت الله} أي: طريقة الملك الأعظم التي شرعها وحكم بها وهي إهلاك العاصين وإنجاء الطائعين {تبديلًا} أي: من أحد يأتي بسنة غيرها تكون بدلًا لها؛ لأنه تعالى لا مكافئ له {ولن تجد لسنت الله} أي: الذي لا أمر لأحد معه {تحويلا} أي: من حالة إلى أخف منها؛ لأنه لا مرد لقضائه.فائدة:ترسم سنت لسنت الثلاثة بالتاء المجرورة كما رأيت، ووقف أبو عمرو وابن كثير والكسائي بالهاء، والباقون بالتاء، وإذا وقف الكسائي أمال الهاء على أصله.ولما ذكر الله تعالى الأولين وسنتهم في إهلاكهم نبههم بتذكير حال الأولين بقوله تعالى: {أولم يسيروا} أي: فيما مضى من الزمان {في الأرض} أي: التي ضربوا في المتاجر بالسير إليها في الشام واليمن والعراق {فينظروا} أي: فيتسبب عن ذلك السير أنه يتجدد لهم نظر واعتبار يومًا من الأيام، فإن العاقل من إذا رأى شيئًا تفكر فيه حتى يعرف ما ينطق به لسان حاله إن خفي عليه ما جرى من مقاله، وأشار بسوقه في أسلوب الاستفهام إلى أنه لعظمه خرج عن أمثاله فاستحق السؤال عن حاله {كيف كان عاقبة} أي: آخر أمر {الذين من قبلهم} أي: على أي حالة كان آخر أمرهم ليعلموا أنهم ما أخذوا إلا بتكذيب الرسل عليهم السلام فيخافوا أن يفعلوا مثل أفعالهم فيكون حالهم كحالهم فإنهم كانوا يمرون على ديارهم ويرون آثارهم، وأملهم كان فوق أملهم وعملهم كان دون عملهم، وكانوا أطول منهم أعمارًا وأشد اقتدارًا ومع هذا لم يكذبوا مثل محمد صلى الله عليه وسلم.وأنتم يا أهل مكة كفرتم بمحمد ومن قبله عليهم السلام {وكانوا} أي: أهلكناهم لتكذيبهم رسلنا، والحال أنهم كانوا {أشد منهم} أي: من هؤلاء {قوة وما كان الله} أي: الذي له جميع العظمة وأكد الاستغراق في النفي بقوله تعالى: {ليعجزه} أي: مريدًا لأن يعجزه، ولما انتفت إرادة العجز فيه انتفى العجز بطريق الأولى، وأبلغ في التأكيد بقوله تعالى: {من شيء} أي: قل أو جل وعم بما يصل إليه إدراكنا بقوله تعالى: {في السموات} أي: جهة العلو، وأكد بقوله عز وجل {ولا في الأرض} أي: جهة السفل {أنه كان} أي: أزلًا وأبدًا {عليمًا} أي: بالأشياء كلها حقيرها وجليلها {قديرًا} أي: كامل القدرة أي: فلا يريد شيئًا إلا كان ولما كانوا يستعجلون بالتوعد استهزاء، كقولهم: {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم}.على أن التقدير ولو عاملكم الله تعالى معاملة المؤاخذ لعجل إهلاككم عطف عليه قوله تعالى إظهارًا للحكم مع العلم.{ولو يؤاخذ الله} أي: بما له من صفات العلو {الناس} أي: المكلفين {بما كسبوا} أي: من المعاصي {ما ترك على ظهرها} أي: الأرض {من دابة} أي: نسمة تدب عليها كما كان في زمن نوح عليه السلام أهلك الله تعالى ما على ظهر الأرض إلا من كان في السفينة مع نوح.فإن قيل: إذا كان الله تعالى يؤاخذ الناس بما كسبوا فما بال الدواب؟أجيب: بأن المطر إنعام من الله في حق العباد، وإذا لم يستحقوا الإنعام قطعت الأمطار عنهم فيظهر الجفاف على وجه الأرض فيموت جميع الحيوانات، وبأن خلقة الحيوانات نعمة والمعاصي تزيل النعم وتحل النقم والدواب أقرب النعم؛ لأن المفرد أولًا ثم المركب، والمركب إما أن يكون معدنًا وإما أن يكون ناميًا، والنامي إما أن يكون حيوانًا أو نباتًا، والحيوان إما إنسان أو غير إنسان فالدواب أعلى درجات المخلوقات في عالم العناصر للإنسان.فإن قيل: كيف يقال لما علته الخلق من الأرض وجه الأرض وظهر الأرض مع أن الظهر مقابله الوجه فهو كالمتضاد؟أجيب: بأن الأرض كالدابة الحاملة للأثقال والحمل يكون على الظهر، وأما وجه الأرض فلأن الظاهر من باب والبطن والباطن من باب فوجه الأرض ظهر؛ لأنه هو الظاهر وغيره منها باطن وبطن.{ولكن} لم يعاملهم معاملة المؤاخذ المناقش بل يحلم عنهم فهو {يؤخرهم} أي: في الحياة الدنيا ثم في البرزخ {إلى أجل مسمى} أي: سماه في الأزل لانقضاء أعمارهم ثم يبعثهم من قبورهم وهو تعالى لا يبدل القول لديه لما له من صفات الكمال {فإذا جاء أجلهم} أي: الفناء الإعدامي قبض كل واحد منهم عند أجله، أو الإيجاد الإبقائي بعث كلًا منهم فجازاه بعمله {فإن الله} أي: الذي له الصفات العليا {كان} ولم يزل {بعباده} الذين أوجدهم ولا شريك له في إيجاد واحد منهم بجميع ذواتهم وأحوالهم {بصيرًا} أي: بالغ البصر والعلم بمن يستحق العذاب ومن يستحق الثواب، قال ابن عباس: يريد أهل طاعته وأهل معصيته، وما رواه البيضاوي تبعًا للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الملائكة دعته يوم القيامة ثمانية أبواب الجنة أن ادخل من أي الأبواب شئت» حديث موضوع. اهـ.
|